الهند كما يصفها الدكتور محمد
حسين هيكل
د. محمد جسيم الدين
محاضر ضيف في قسم اللغة العربية
بجامعة دلهي
الدكتور محمد حسين هيكل من الرحاليين الذين رحلوا إلى الهند وكتبوا
عن مشاهداتهم و تجاربهم عن الثقافات الهندية وحضاراتها، فقد نال شهرة فائقة بين
أقرانهم وخلف وراءه آثارا رائعة وأعمالا قيمة، لها دور في تطوير العلوم والفنون الأدبية من التاريخ والجغرافيا
والرحلات. إنه زار الهند في عام 1953م، وجمع المعلومات والمعرفة عنها، ثم نسخها و
رتبها في شكل المقالة في كتابه القيم "الشرق الجديد"، وقد أمضى خمسة
أسابيع من 31 ديسمبر إلى 3 فبراير 1954م.
وكتب مارأى في الهند من علم وثقافة، والأماكن التاريخية،
والمراكز الدينية، والمعابد الهندوسية التي زارها بالقصد وبعضها مروراً في الطريق
بدون الإرادة.
لايمكن لي أن أقوم بالتركيز على جميع انطباعاته للهند في
هذا المقال الوجيز، بل أريد أن أتناول انطباعاته الخاصة التي تتعلق بزيارته إلى
أربعة أماكن. الأول: زيارته التاج محل وفتح بور سيكري، والثاني: زيارته مدينة
مومباى ولقاؤه حاكمها وحوراه مع حاكم مومباى حول قضايا شتى مثل قضايا المرأة
الهندوسية ونظام الطبقات وشأن المنبوذين وأهمية غاندي في تعميم المساوات بين
الأسرة الهندوسية خاصة بين الطبقات العليا والمنبوذين وتأثيره على المجتمع الهندي.
والثالث: زيارته المعابد الهندوسية الواقعة في بنارس ومواضع أخرى. والرابع: زيارته
جامعة علي كره الإسلامية وانطباعاته عنها.
وإنه كان مشتاقا للغاية إلى زيارة الهند كما يذكر في كتابه: "منذ
عهد غير بعيد كنا إذا ذكرت الهند حسبناها من البعد عنا بحيث لايجول بخاطر أحد منا
أن يفكر في زيارتها أو يمر بخاطره أن هذه الزيارة مما يدخل في حيز الممكنات، وكان
عامتنا حين يذكرون بلاد العجائب يذكرون الهند والسند وبلادا تركب الأفيال، فلما
انقضت الحرب العالمية الأولى وبدأت الثورة المصرية سنة 1919م بدأنا نسمع في مصر عن
أنباء حركة "المهاتما غاندي" في الهند ونرى وجوها للشبه غير قليلة بين
حركتنا وحركة الاضطراب ومقاطعة البضائع الأجنبية، وعدم التعاون وماإلى ذلك من شؤون
قربت في أذهاننا بين تلك البلاد وبلادنا، ودلتنا على أن ذلك الذي كنا نتصوره من قبل من بعد بلاد الهند عنا
لم يكن مرجعه إلى مايفصل بيننا وبينها من آلاف الأميال، وإنما كان مرجعه إلى جهلنا
أمرها وعدم وقوفنا على شؤونها، فلما بدأنا نقف على بعض هذه الشؤون قربت منا، لأن
العلم يقرب بين الإنسان ومايعرف، في حين يباعد الجهل بين الإنسان و مايجهل".
الهند
تَعني بالحركة الاستقلالية:
يصف
الدكتور حسين هيكل حركة الهند الاستقلالية في كتابه "الشرق الجديد" بأن
حركة الهند الاستقلالية زادت نشاطا وقوة، وازددنا تتبعا لها ووقوفا على الكثير من
أمرها، فازددنا قربا منها. وزاد في هذا القرب أن رأينا الهند تعني من شؤون مايجري
في محيطنا بما نعني به نحن، وتشاركنا في آلامنا وآمالنا. لما ألغت تركيا الخلافة
الإسلامية بعد أقصت سلاطين آل عثمان عن عرشها بدأت في العالم الإسلامي حركة تفكير
قوية في هذا الأمر الذي كان يعتبر يومئذ حيويا عندجميع المسلمين وكانت جمعية
الخلافة في الهند أقوى مظهر لهذه الحركة. ولم يكن ذلك عجبا ومسلمو الهند يبلغون
يومئذمئة مليون ويؤلفون أكبر كتلة إسلامية في العالم كله. ولكن العجب في اشتراك
الهنود غير المسلمين مع الهنود المسلمين في حركتهم هذه وتأييدهم لها حرصا على وحدة
الهند وكان طبيعيا يومئذ أن تتطلع الأنظار هنا في مصر، وأن تتطلع أنظار المسلمين
في شتى بقاع العالم، إلى هذه الحركة الهندية الإسلامية وإلى تأييد "المهاتما
عاندي" وأنصاره من الهندوس لها، وأن يقرب ذلك بين الهند والعالم الإسلامي
كله،وأن يدفعنا هذا التعاطف إلى الشعور بأن الهند ليست بعيدة عنا بقدر ما كنا
نتصور. وهل يقرب بين الناس شيئ كاشتراكهم في العواطف إزاء أمر بعينه. وهذه
الاشتراك في العواطف يمحو الأبعاد وإن بلغت ألوف الأميال وعشرات الألوف من
الأميال.
فلما
نجحت الحركة الاستقلالية في الهند زاد نجاحها في قربها منا معشر الذين يطلبون
الحرية والاستقلال للشعوب جميعا، وبخاصة لأن الهند قارة أوشبه قارة كما يسمونها،
ولأن استقلال أربع مئة مليون من البشر يمثلون خمس الإنسانية في مجموعها يعتبر نصرا
مؤزراً وفتحا مبيناً للحرية والاستقلال وللكرامة الإنسانية ولكل المعاني الإنسانية
السامية. وبدأ الغرب يكشف لنا عما في الهند من قيم روحية وخلقية عليا كما كان
جهادها في سبيل الاستقلال مثلاً فذاً في تاريخ الجهاد الإنساني للحرية، وبدأنا
بذلك نشعر أن هذه البلاد المترامية الأطراف ذات الماضي المجيد والفلسفة الروحية
السامية جديراً حقاً بأن نزورها وأن نشهد
ما فيها وأن نقف على حاضرها وماضيها.
لذلك
لم أتردد حين وجهت إلي حكومة الهند الدعوة للاشتراك في الندوة التي تعقد (عقدت) في
نيو دلهي لدرس ماكان لتعاليم غاندي وأساليبه العلمية من أثر في توثيق العلاقات
الإنسانية في داخل الأمم وبين الأمم بعضها وبعض، فقبلت الدعوة لأول ما عرضت علي،
وأخذت أدرس حياة غاندي وتعاليمه، وأقف أثناء هذه الدراسة على شيئ غير قليل عن حياة
الهند في ماضيها وحاضرها، وأهيئ نفسي على ما هناك من ألوان الحياة ومظاهرها في هذا العالم الجديد الذي لم
يتح لي من قبل أن أتصل به أو أقف عليه.
وترتب
على قبول الدعوة أن عرفت أن الطائرة تقطع مابين القاهرة و بومباي في عشر ساعات
وكذلك سافرت إلى الهند فقضيت بها خمسة أسابيع من 31 ديسمبر إلى 3 فبراير وفي هذه
الأسابيع الخمسة شهدت الشيئ الكثير مما يسرني أن أحدثكم الأن عنه.
على
أنني أبادر إلى القول بأنني لم أتنقل خلال ربوع الهند طيلة هذه الأسابيع الخمسة.
فقد كانت ندوة غاندي معقودة في نيو دلهي، وكان مقررا أن يمتد انعقادها من 5إلى 17
يناير، فكان لزاما أن نقيم بعاصمة الهند طوال هذه المدة. فلما انتهت الندوة تنقلت
أنا وصديقي الدكتور "أحمد متين الدفتري" رئيس وزراء إيران السابق خلال
الهند طيلة الأسبوعين اللذين بقيا من إقامتنا في ربوعها. فلما فرغنا من تجوالنا
السريع في أرجائها قفلنا عائدين معاً حتى نزلنا بغداد ليسافر هو منها بعد أيام إلى
طهران، ولأسافر أنا منها بعد أيام كذلك إلى القاهرة.
الهند
تشابه في كثير من الأوضاع بمصر:
كثيرون
يظنون أن الهند بلاد جميلة كسويسرا أو كلبنان. ويغريهم بهذا الظن أن بها جبال
الهيماليه حيث تقوم قمة إفرست أعلى قمة في جبال العالم. ويظن آخرون أن الهند بلاد
الغابات والأدغال الموحشة التي تغطي عشرات الآلاف من الأفدنة، وأنها تحوي من
الوحوش أمثال الأسد والنمر والفهد مايخافه الإنسان. يغريهم بهذا الظن ما كتبه
الرحالون الإنجليز وغير الإنجليز عن صيد الوحوش في الهند وكلا هذين الظنين
لايصوران الواقع من أمر الهند في مجموعها. صحيح أن الجبال تمتد في شمال الهند
وتقوم حاجزا منيعا بينها وبين جاراتها من الأمم الأخرى. لكن طبيعة الهند فيما سوى
هذه المنطقة الشمالية طبيعة سهلة تشبه طبيعة وادينا المصري في كثير من الأحيان،
والمرتفعات التي تقوم على الساحل الهندي ليست جبالاً علية عظيمة الارتفاع، بل هي
في كثير من الأحيان هضاب لايزيد ارتفاع الكثير منها على الجبال المحيطة بوادينا
والتي تفصل بينه وبين صحرائنا الشرقية وصحرائنا الغربية. صحيح أن بعض البلاد
بالداخل ترفع عن سطح البحر بضع مئات من الأمتار، وأن هذا الارتفاع يجعل جوها
رقيقاً مقبولاً على مدار فصول السنة، لكن ارتفاعها هذا لايجعلها جبلية، بل هي أراض
منبسطة تجري السيارة في طرقها مستوية مئات الأميال تنبسط عن يمينها وعن يسارها
المزروعات الممرعة ويمتد البصر منها إلى الأفق فلا يقف في طريقها حائل من تل أو
هضبة أو جبل إلا نادراً.
لفتت
هذه الطبيعة السهلة المنبسطة نظرالكثيرين من إخواننا الذين دعوا إلى ندوة عاندي،
ولفت نظرهم خصب الأرض المخضرة بالزروع النامية الممتدة إلى مدى البصر.
زيارته
تاج محل وفتح بور سيكري:
يذكر
الدكتور محمد حسين هيكل زيارته تاج محل وفتح بور سيكري في كتابه بهذه الألفاظ"ذهبت
أنا والدكتور "رالف بانش" نزور
تاج محل في آغرا ونزور آثاراً أخرى في المدينة المهجورة "فتح بور
سيكري" وآغرا تبعد عن دلهي مسافة مئة وخمسة وعشرين ميلا، و"فاتح بور
سيكري" التي تبعد عن آغرا خمسة وأربعين ميلاً، وقد كان انبساط الأرض وخصبها
موضع حديثنا ونحن في السيارة".
الهند
بلاد زراعية وفيرة الثروة:
أن
الهند بلاد زراعية وفيرة الثروة كثيرة الخامات ولذلك كانت مطمح نظرالمستعمرين في
عصور كثيرة. ولم أقف أثناء تجوالي بالهند على تلك
الغابات التي تصاد فيها النمور والحيوانات المفترسة ولعل هذه الغابات تقع في مناطق
محدودة لم يتسن لي أن أذهب إليها.
الأثار الهندية تجذب الأنظار:
يقول الدكتور هيكل: "إذا كانت
الطبيعة أول مايأخذ بنظر السائح الغريب عن الديار فالآثار هي أشد مايجذبه
ويستهويه. فالسائح القادم إلى مصر أول ما يفكر
في زيارة الهرم وأبي ابي الهول وسقارة والأقصر. حين نزلنا دلهي قيل لنا أن
من جاء الهند ولم ير تاج محل لم يكن قد زار الهند. فأنت حين تذهب إلى فرنسا مثلاً
فأول ما يعينك أن تشهده وأول ما يعني أهل فرنسا أن يطلعوك عليه هي الآثار الموجودة
في باريس وما حولها في فرساي وفونتنبلو، وفنسين، وقصور اللوار في أواسط فرنسا.
وزيارة الآثار لايقصد بها إلى مشاهدة
هذه المباني وما تحويه للمتاع بجمال العمارة وجمال ما بداخلها وكفى، بل يقصد بها
إلى معنى أدق من هذا بكثير . يقصد بها إلى معرفة صلة الإنسان بالحياة والوجود في
مختلف أدوار التاريخ. فالآثار المصرية القديمة تصور حياة الفراعنة وتصورهم للحياة
ولما بعد الحياة. والآثار الفرنسية تصور حياة فرنسا السياسية والاجتماعية وما طرأ
عليها من هزات بلغت حد الثورات أحياناً وماتقع عليه العين من آثار روما ما هو مهدم
منها وما هو باق إلى اليوم، يصور حياة الرومان القديمة وتطور هذه الحياة خلال
العصور إلى وقتنا الحاضر".
ويعترف الدكتور هيكل بأن الهند غنية
بالآثار إلى غير حد وآثارها تترك في النفس ألواناً مختلفةً من التصور الإنساني
للحياة في عصور الإنسان المختلفة. ذلك بأن الهند طرأت عليها ألوان من الحضارات استقرت
فيها وتركت من آثارها ما يقف النظر بالفعل. فهناك إلى جانب الآثار الهندوسية الأصلية- التي يرجع تاريخ بعضها إلى
ألفي سنة أو أكثر- آثار المغول، وآثار الفرس، وغير هؤلاء وأولئك من المسلمين. كما
أن هناك آثاراً حديثةً أقام الهنود بعضها وأقام البريطانيون البعض الآخر، وكل هذه
الآثار تقف النظر وتدعو إلى أعمق التفكير.
انطباعات هيكل عن الآثار الإسلامية الواقعة في الهند :
ويبين الدكتور هيكل بأن الهند لها الآثار
الإسلامية التي يشهدها الإنسان في أرجائها المختلفة وهي المساجد والمقابر وتاج محل
وهو أبهى هذه الآثار وأكثرها روعة وجلالاً، إنما هي مقبرة شادها الملك
"شاهجهان" لامرأته، كما أن أهرامات مصر مقابر شادها الفراعنة ليدفنوا
بها. وأنت تشهد هذه العمارات البديعة التي أقامها ملوك المسملمين في الهند ليدفنوا
أو يدفن بعض ذويهم بها منتشرة في كثير من المدن. تشهدها في دلهي، وفي آغرا، وفي
الكسندرا، وفي حيدرآباد وفي مثلها من المدن الكبرى ذات التاريخ المجيد في الهند
وكثيرا مانرى إلى جانب هذه المساجد الفخمة مساجد مستقلة غير متصلة بها. وهي في ذلك
تختلف عن مقابر المصريين المتصلة بالمساجد وتختلف كذلك عن مقابر الصالحين المتصلة
بالمساجد في العراق وتركيا. فقبور الصالحين في مصر والعراق أو مقصوراتهم كما
نسميها هي جزء من المسجد كما أن المقصورة النبوية جزء من المسجد النبوي بالمدينة.
وعمارة المساجد تختلف بين مصر والعراق، لكن السالحين المدفونين هناك تقع مزاراتهم
داخل المسجد على حين تقع مقابر الملوك المسلمين
في الهند منفردة عن المسجد، يفصل بينها وبينه طريق يختلف سعة وضيقاً.
صورة المساجد
والمقابر في الهند كما رأى هيكل:
يقول هيكل بأنه لم
يرى مقابر متصلة بالمسجد إلا ماكان في مسجد "حيدرآباد"
على أن نظام المقابر في هذا المسجد يختلف عنه
في مساجد مصر والعراق سواء منها مساجد أهل السنة أو مساجد الشيعة. فمقابر
"حيدرآباد" هذه وهي ثلاثة تقع في دهليز طويل يبلغ طوله ثلاثين مترا أو
تزيد، وهذا الدهليز مرتفع عن الأرض قرابة متر، مبني كله بالرخام، والقبور تتوسطه
مبنية بالرخام، وقد غطي كل منها بستر من قماش كثيف، يرفعه سادن هذه القبور
للزائرين ذوي المكانة من ضيوف الدولة.
فأما مساجد الهند
فتختلف كذلك عن غيرها من مساجد المسلمين، ولم أر لها شبيها إلا الجامع الأموي
بدمشق. فأما مساجد العراق ومساجد إستانبول فتشبه مساجدنا هنا من حيث إنها مسقوفة
كلها. أما مسجد دمشق، وأما مساجد الهند فالجانب المتصل منها بالقبلة مسقوف يرتكز
سقفه على عمد ثم يظل سائر المسجد مكشوفا إلى السماء متصلاً مع ذلك ببقية المسجد
على أنه جزء منه. ومساجد الهند التي رأيتها حسنة البناء كلها. ولم أعن نفسي بالبحث
عن أي هذه المساجد لأهل السنة وأيها للشيعة، وإن كنت قد عرفت في كثير من المدن
التي زرتها أن للشيعة مساجد ولأهل السنة مساجد أخرى. وفي البعض يزيد أهل السنة على
الشيعة زيادة كبرى، وفي البعض الآخر يزيد الشيعة على أهل السنة زيادة ظاهرة. ويرجع
ذلك إلى التاريخ أكثر مما يرجع إلى أي سبب آخر. فقد نزل الفرس الذين جاءوا الهند
بعض المدن وكثروا فيها فكانت الكثرة فيها للشيعة، بينا كثر غير الفرس من المسلمين
في مدن أخرى فكانت الكثرة فيها لأهل السنة.
الأثار الهندوسية
والمعابد الهندوكية في عيون هيكل:
يصف الدكتور هيكل
بأن الهند تفتخر على الآثار الهندوسية المختلفة ومعظمها معابد، يرجع تاريخ بعضها
إلى ألفي سنة أو أكثر. بينا أقيم البعض في عهد حديث وقد هجرت بعض هذه المعابد الهندوسية
حتى تهدمت أو كادت، بينا بقي بعضها إلى اليوم عامراً. ويتعذر على من لم يدرس عقائد
الهند وفلسفة هذه العقائد أن يميز بين هذه المعابد والمذهب الذي تمثله. ولقد كانت
مدة إقامتي باهند قصيرة فلم أتمكن من دراسة تعاونني على هذا التمييز بين المعابد.
ولكنني مع ذلك زرت الكثير منها ووقفت عند بعضه معجباً بدقة عمارته، معتجاً كذلك بما
بين ألوان العبادة فيه وبين التثليث المصري القديم والتثليث المسيحي وبين التثليث
الهندوسي من شبه، وإن اختلف مايرمز إليه التثليث الفرعوني والمسيحي والهندي خلافاً
كبيراً. وتبعث هذه المعابد وما فيها من نشاط صورة من حياة الماضي الهندي يجعله في
حكم الحاضر ونشاطه.
انطباعاته عن
مدينة بنارس:
لا يخفى على أحد
من الناس بأن بنارس مدينة شهيرة في الهند لكونها عاصمة دينية للهنادك. يصفها
الدكتور حسين هيكل بألفاظه: "زرنا المدينة المقدسة "بنارس" الواقعة
على نهر "الجانج" أو "الجانجي" كما يسميه الهنود، ومررنا بعد
العشاء ببعض معابدها فألفينا العشرات بل المئات يذهبون إلى هذه المعابد ومع
الكثيرين منهم مايتقربون به إلى معبوداتهم، يصنعون من ذلك ماكان يصنعه أسلافهم منذ
مئات السنين أو ألوفها، ويشهدون بذلك على أن هذا الماضي مازال حياً كما كان، وأن
مظاهر الحضارة الغربية لم تجن عليه في قليل ولاكثير.
وزرنا عصر ذلك
اليوم معابد تشهد ألوان العبادة فيها بأن الحياة الحديثة والعلم الحديث لم يجنيا
على مقدسات الماضي السحيق حين كان الإنسان يتخذ الحيوان ويتخذ الأحجار إلى الله زلفى.
زرنا بعد ذلك في
"سارناث" على مقربة من مدينة "بنارس" معبد "بوذا"
وآثاره. الشجرة التي يذكرون أن الإلهام أضاء أمامه بنوره وهو تحتها، والهضبة التي
آوى إليها ليعبد فيها ربه، والمعبد الذي أقيم من عهد غير بعيد رسمت على جدرانه
تعاليمه. ومن عجب أن البوذية التي نشأت في الهند لم يبق لها في الهند أتباع إلا
قليلين، بينما ازدهرت في بلاد أخرى تجاور الهند، برما والتبت وبعض أنحاء الصين
واليابان.
ومادمنا بصدد
المعابد الهندية والحديث عنها فلا أستطيع أن أغفل أقربها عهداً وأقربها إلى تصوير
التطور في الحياة الروحية الهندية تطوراً كان المهاتما غاندي صورته الحية. أقصد
معبد "برلا" وهو المعبد الذي أقامه السري الهندي برلا في نيو دلهي
وافتتحه "المهاتما غاندي". فهذا المعبد مجموعة تحتوي عدة معابد أحدها
برهمي، والآخر بوذي، والثالث لمذهب آخر من المذاهب الهندية. وفي كل واحد من
المعابد يرى الإنسان مكتوباً بالإنجليزية وحدانية الله، وتشير إلى ماكان يكرره
"غاندي"من أن الله هو الحق، وأن الحق هو الله، وتذكر أن الخلق والحياة
والانهيار والفناء مظاهر، وأن البقاء لله وحده، وأن الأرباب التي تصور الخلق
والبقاء والتجدد إنما تصور صفات من صفات الله. أ ليست هذه المعاني الدينية
المنقوشة على جدران هذا المعبد تمثل المعاني المشتركة في الأديان كلها.
انطباعاته عن
المهاتما غاندي :
يقول الدكتور
هيكل إن "غاندي" كان رجلاً متديناً شديد الإيمان بالله. طلب إليه بعضهم
يوماً أن يكتب كتاباً يصور فيه فلسفته الدينية والسياسية فقال: إنني لست فيلسوفاً،
ولكنني رجل عمل، فإذا عرضت لي مشكلة استخرت الله فألهمني طريقاً فسرت فيه فوفقني
إلى ما أبتغيه. ليس هذا المقام مقام الحديث عن غاندي وآرائه لكني وأنا أقص
مشاهداتي في الهند لابد لي من أن أذكر أنني حين قرأت حياته أخذت منها أكثر من كل
شيئ بمجهوده لمقاومة عقائد تأصلت في الهند خلال عشرات القرون بل مئاتها، ونجاحه في
ذلك نجاحاً منقطع النظير، حتى لقد كان أول مادار بحاطري وأنا بالطائرة في طريقي
إلى الهند أن أرى مبلغ هذا النجاح. قاوم "غاندي" نظام المنبوذين، وقاوم
عبودية المرأة للرجل، فكان لذلك من أتباعه منبوذون كثيرون، ونساء كثيرات. وقد سألت
نفسي: أتأصل هذا في الهند فأصبح بعض عقائدها، أم تراه تطاير فعادت الهند إلى سابق
عهدها قبل "غاندي".
لقاؤه حاكم ولاية
مومباي:
يعبر حسين هيكل
عن آرائه وأفكاره خلال لقاء حاكم ولاية "مومباي" إنه دعاه إلى طعام
الغداء يوم وصوله إلى "مومباي". ويذكر هيكل في كتابه بهذه الألفاظ"
فلما التقينا ودار بيننا الحديث سألته: ما شأن المنبوذين في الهند اليوم؟ وكان
جوابه: لقد ألغى الدستور نظام الطبقات وقرر مساواة الهنود جميعاً. قلت: هذا حسن من
والوجهة النظرية فهل انتقل الأمر إلى الحياة العملية فأصبح الناس يعاملون بعضهم
بعضا وكأن لم يبق بين الطبقات فارق؟ وأجابني الرجل في صراحة: لا أستطيع أن أقول
نعم. فما يزال من أهل الطبقات القديمة من لايؤمن بهذه المساواة، ولايزال منهم من
يرى المنبوذين نجساً. لكني مقتنع أن هذا الاعتقاد مصيره إلى الزوال بعد أن أصبح
أبناء المنبوذين يجلسون إلى جانب أبناء الطبقات الأخرى في المدارس ومعاهد التعليم،
وبعد أن فتحت ابواب الوظائف الحكومية للأكفاء جميعاً بسرف النظر عن الطبقات التي
ينتمون إليها، وبعد أن أصبح من حق الجميع أن يعملوا في الأعمال الحرة المختلفة،
وأن يكسبوا من المال ما تؤهله لهم كفايتهم. وللتطور الاقتصادي حكم على التطور
العقلي، كما أن التطور العقلي متأثر بأحوال العالم الذي تقاربت أجزاؤه. لهذا أعتقد
أن هذا التمييز بين الطبقات صائر إلى الزوال عما قريب، وإن كان زواله ليس معناه
ألا تنشأ طبقات أخرى أساس منشئها الثروة أو الجاه أو ما شئت من أسباب التفرقة
المختلفة".
والتقينا ونحن في
"بنارس" بالفيلسوف الهندي الدكتور "باجوات داسي"، وهو رجل
مهيب الطلعة يبلغ من العمر آنذاك أربع وثمانين سنة، فحدثته في أمر المنبوذين، فكان
جوابه غير جواب حاكم "بومباي" قال: إن محاولة القضاء على الطوائف معارضة
للطبعية وللتكوين الإنساني. فقد أثبت الإحصاء في أمريكا أن ثلاثة وأربعين في الألف
فقط من بين المتعلمين تعليما عالياً هم الذين يستطيعون السمو بتفكيرهم إلى مرتبة
التجريد وأن غير هؤلاء من المتعلمين ومن غيرهم هم الذين يقومون بالتجارة أو بشؤون
الجيش، وأن العدد الأكبر هم الذين يزاولون الأعمال الجسمانية كالزراعة والصناعة
وما إليهما ومن هؤلاء من لايستطيعون من هذه الأعمال إلا أقلها حاجة للكفاية أو
المهارة. وتطبيق هذا الذي قرره الإحصاء بعد ذلك يعود بك إلى تصوير الطوائف في
الهند تصويراً يرجع إلى ألوف السنين. وإذا كان هذا التصوير قد فسد وأصبحت الطوائف
العليا تعمل لكسب المال وهو محرم عليها فليس الذنب في ذلك ذنب الفكرة المستندة إلى
تكوين الإنسان الطبيعي، بل الذنب ذنب الجماعات الإنسانية التي يهوي بها الضعف إلى
درك لا يتفق وما فرضته الطبيعة بين الناس من اختلاف.
كان هذا جواب
الفيلسوف الهندي الحكيم. وهو كما ترون جواب علمي لا يغير من واقع الحياة شيئا.
وواقع الحياة في عصرنا الحاضر أكثر اتفاقاً مع الرأي الذي أبداه حاكم
"بومباي" والذي تتجه إليه الديمقراطية وغير الديمقراطية في العصر
الحديث.
أوضاع المرأة
الهندية في عيون هيكل:
يذكر هيكل عن
أوضاع المرأة الهندية في العصر الحديث فيقول إن تطور شأن المرأة في الهند أعظم من
تطور شأن الرجال. فقد تناول التطور في أمر الرجال طائفة منهم بعينها. أما المرأة
فقد دفعها التطور في كل الطوائف إلى الأمام وإلى الحرية دفعاً لايكاد الإنسان
يصدقه. وكان أكبر الفضل في هذا "للمهاتما غاندي" كذلك. كانت المرأة الهندية
إلى عهد غير بعيد في حالة تقرب من الرق، حتى لكانت تحرق مع زوجها حين يموت، وكانت
في حياتها في مركز يكاد يكون مركز الرقيق. فلما أشركها "غاندي" في حركة
المقاومة في غير عنف، وفي حركة العصيان المدني، أظهرت من قوة الاحتمال ماعجز عنه
الرجال في بعض الأحيان هنالك ارتفعت الصيحة بأن للمرأة من الحق في الحياة ما
للرجل، وسرعان ما انتقلت من ذلك إلى مساواته في الحقوق كلها، وفي الحقوق السياسية
نفسها. ولعمري إنها بذلك لجديرة. لقد كنت شديد الإعجاب بمدام "بانديت"
شقيقة الرئيس نهرو منذ رأيتها في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1946م وعام
1947م، وكنت أحسبها امرأة ممتازة لايشاركها في امتيازها رجل أو امرأة. فلما ذهبت
إلى الهند وأتيح لي أن اتحدث إلى بعض السيدات هناك، رأيت صورة إنسانية بالغة غاية
الرقي، في تفكيرها وفي ذوقها الحياة. وزادني اقتناعاً بذلك أن شهدت بعض مظاهر النشاط
النسوي في الحياة الاجتماعية وفي الحياة التربوية، لافي دلهي وحدها، بل في مدن
مختلفة زرتها. وليس عجباً أن تنهض المرأة في أمة كل شيئ فيها ناهض أو متوثب
للنهوض.
انطباعاته عن ازدهار الهند في
العصر الحديث:
قد اعترف هيكل بتقدم الهند وازدهارها
كما يقول في كتابه "الشرق الجديد" إن الهند بلاد زراعية أرضها خصبة متنوعة
الحاصلات مع ذلك تعمل الحكومة المركزية متعاونة مع حكومات الهندية لمضاعفة الإنتاج
الزراعي بإقامة السدود لتنظيم الري، وتعمل في الوقت نفسه لتصنيع البلاد وتركيز
الصناعات الكبرى في الأجواء الملائمة لها. والصناعة هي الوسيلة الأكيدة لشعور
الأمم بمقدرتها الإنسانية على الدفاع عن نفسها. ولقد نشأت في الهند صناعات ضخمة
كثيرة في مقدمتها صناعة النسيج للقطن والحرير، ومنها صناعة الحديد، والخزف، ومنها
كذلك صناعة أجزاء الطائرات المختلفة. وقد زرت المدرسة التي يتعلم فيها الهنود
صناعة الطائرات على يد أساتذة من الألمان ومن السويديين ومن غيرهم فأثارت غاية
إعجابي. وإذا لم تكن قد بلغت بعد أن تصنع محركات الطائرات فإن تقدمها المطرد يبشر
بأنها ستبلغ أن تصنع هذه المحركات في زمن قريب.
انطباعاته عن الحركات العلمية:
و في جانب آخر يعترف هيكل بأن جماعة
كبيرة من الهنود أصبحوا خبيراً في البحوث العلمية المتقدمة في الزرة وصناعة
الصواريخ والطائرات الجوية بالجودة العالية كما يقول: "لست فيما أذكر من ذلك
مبالغا في التفاؤل، فإن نشاط الحركة العلمية في الهند يدعو إلى الإعجاب، بل يدعو
إلى الدهشة، وقد كانت هذه الحركة العلمية أشد ما أثار اهتمامي مدة مقامي في الهند.
لذلك زرت كل جامعة استطعت زيارتها في البلاد التي مررت بها، وتحدثت إلى الأساتذة
والطلاب فيها. وأشهد لقد أدهشني ما رأيته في بعضها من تجارب علمية بالغة غاية
الدقة".
انطباعاته عن جامعة علي كره
الإسلامية:
إن حسين هيكل قد تأثر كثيرا بزيارة
جامعة علي كره الإسلامية كما يقول: "كثيرا ما سمعت عن "جامعة
عليكره" أو "أليجار الإسلامية" كما يسمونها بالإنجليزية، وقد ذهبت
لزيارتها مع صديقي الدكتور "متين دفتري" بدعوة من مديرها الدكتور
"ذاكر حسين" وكان أكبر ظني أن هذه الجامعة الإسلامية تعني بالدراسات
الإسلامية المختلفة ولاتتعداها. فلما بدأنا زيارتها لم يتغير هذا الظن في نفسي.
فقد كان مسجد الجامعة أول ما سار بنا الدكتور "ذاكر" إليه. ثم إننا زرنا
مكتبة الجامعة ورأينا فيها الكثير من الكتب العربية والفارسية ومن المخطوطات
القديمة فلم يغير ذلك من ظني الأول كثيراً. لكنني لم ألبث حين انتقلت مع الدكتور
"ذاكر" إلى أقسام الجامعة العلمية أن تغير ظني من أساسه. فهذه الأقسام
العلمية في الطبيعة والكيمياء والرياضة العليا وغيرها تتناول أدق مشاكل العلم في
الوقت الحاضر. وبعض هذه الأقسام مما رتب للبحث العلمي ينقطع له من أتموا دراساتهم
العليا ويصلون فيه إلى نتائج تفخر بمثلها أكبر الجامعات في أوربا وأمريكا، ويشرف
عليها بعض العلماء الأمريكان. وحسبي أن أذكر لكم من هذه الأبحاث محاولة ناجحة
لقياس الضغط الجوي على ارتفاع مئة ألف قدم وآثاره الكهربية على ألواح تعد خصيصاً
لهذا الغرض وترسل في الجو على مناطيد صغيرة تسجل الآلات الدقيقة فيها هذه الآثار
الجوية العجيبة. وقد شهدت مثل هذه الأبحاث في معاهد جامعة "بنجلور" وفي
غيرها من الجامعات التي زرتها. و كان أكبر اهتمامي في هذه الزيارات الجامعية أن
أبحث الوسيلة التي تستطيع البلاد الشرقية، وتستطيع الهند معها أن تتبادل من ألوان
التعاون العلمي والثقافي والفلسفي ما يزيد روابطها قوة إذ يجعل أبناءها اكثر معرفة
بما في غير بلادهم من اتجاهات وأبحاث. ولقد شعرت بأن هذا الموضوع ليس من اليسر بما
يتصور الإنسان. قال أحد الأساتذة في جامعة "بنجلور" بأن بحثاً كهذا
البحث جرى لتقريب أجزاء الكمنولث البريطاني من "بنجلور" مع سير "صمويل رانجادان" والسيد
"جوردون" في هذا الموضوع وذكرت لهما ما عرض من اقتراحات بعقد مؤتمرات
وتبادل أساتذة وطلاب وتبادل مؤلفات وبحوث فتمنيا لي النجاح في المحاولة التي
أعالجها وإن بدأ عليهما شيئ من الشك في هذا النجاح. وكم أود لو استطاع رجال
جامعتنا وعلماؤنا أن يتناولوا هذا الموضوع بالبحث فيما بينهم. فالصلات العلمية
والأدبية والفنية بين الأمم هي التي تكفل ارتباطها بأوثق رباط.
كان الدكتور محمد حسين هيكل حريصاً على وصف انطباعاته
وآرائه عما كان يرى أو يسمع أو يشاهد وأهم وصفه في الكتابة هو إحساسه وشعوره وما
اعتلج في قلبه من الأفكار النادرة. ويتجنب كل الاجتناب في كتابة المذكرات خلال
الرحلات ماذا أكل من المآكل وماذا شرب من المشروبات وماذا لبس من الملبوسات، بل
دائماً يركز على أن يكتب ما يكون نافعاً للمجتمع الإنساني ويأتي بأفكار قيمة كما
تتجلى في كتبه القيمة عامة وعلى الأخص في كتابه "الشرق الجديد".
لم يكن متصومعًا على نفسه، يحلق بفكره
في أبراج عاجية تنأى عن هموم الناس ومشاكلها اليومية، بل كان رجل فكر وحركة، فكما
كان يكتب في الفلسفة والتاريخ والأدب، كان في ذات الوقت رائدًا من رواد العمل
السياسي العام في مصر الحديثة، يكافح من أجل استقلال مصر، وقد توفي الدكتور هيكل
عام ١٩٥٦م.
المصدر والمرجع:
هيكل،محمد حسين: الشرق الجديد، دار المعارف القاهرة،
الطبعة الثانية 1990م
(هذه المقالة نشرت في "الدعي"مجلة عربية إسلامية شهرية الصادرة من دار العلوم، ديوبند، جمادي الأولى 1441 المصادف يناير 2020،العدد:5، المجلد:44 )